Admin مؤسس الموقع
عدد المساهمات : 46 نقاط : 213 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 28/02/2013 العمر : 29 الموقع : http://chabab.moroccofree.com
| موضوع: طهر قلبك من الحسد السبت مارس 30, 2013 8:50 am | |
|
طهر قلبك من الحسد
في عصرنا هذا ضَعُفَ الإيمان، فكَثُرتْ أمراض القلوب، وضاعتِ البركة من الأموال والأقوات، فما أحوجنا إلى التزوُّد بخير زادٍ ألا وهو التقوى؛ كي نقوِّي إيمانَنا، ونتخلَّص من أدوائنا، وتَصفو نفوسُنا، فبالإيمان القوي يستطيع الإنسان الثبات أمامَ الصعاب، ومواجهة شتَّى النوائب.
التحجج بالحسد: كثيرٌ من الناس يَتَّكِلون على الحسد، ويُبررون كلَّ أخطائهم وخسائرهم وما ينتابهم من مصائبَ، ويُعلِّقون كلَّ هذا على شماعة الحسد! بل قد يتكاسلون ويتقاعسون عن مهامهم، وعندما يستحثُّهم أحدٌ يتحججون بالحسد، فهل هؤلاء معهم حقٌّ فيما يقولون أو أنهم يُبالغون؟ الأصل أنَّ المسلم لا يجعل الحسد والْحُسَّاد عقبة في طريقه، بل يتجاهل كلَّ هذا، ويعتمد على الله، ويستعيذ بالله من شرِّ الحسد والحاسدين، ويأخذ بأسباب الانفراج، ويجتهد في إزاحة ما نزلَ به من ضُرٍّ.
ما الحسد؟ الحسد هو: تَمَنِّي زوال نعمة الغَيْر؛ سواء تَمَنَّى الحاسد تَحَوُّل هذه النعمة إليه دون المحسود، أو لَم يَتَمَنَّ ذلك، وليس الحسد قاصرًا على ذلك، بل من الحسد فرحُ المرءِ لزوال النعمة عن غيره، أو إصابته بمصيبة، أو حُزنه لحصول غيره على نعمةٍ وخير، وذلك حسد مذموم؛ إذ وصَف الله - تعالى - الكافرين به بقوله: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]. أو حرْصه على ألا يَصِل الخير إلى الغير، أو تَمَنِّيه ألاَّ يصِل إليه، وهذا حسدٌ مذموم كذلك؛ لأنَّ تمنِّي عدم حصول النعمة مساوٍ لتمنِّي زوالها بعد حصولها. والحَسَدُ مِنْ أفْعال القلوب؛ لأنه مجرد تمنِّي زوال النِّعْمة عَمَّن حَدَثَتْ له، أو عدم حصوله عليها، أو الفرح لزوالها عنه، أو الحزن لحصوله عليها، أو الحرص القلبي على عدم حصوله عليها؛ لذا فهو من أفعال القلوب. والحسد بهذا المفهوم يختلف عن الغبطة، رغم اشتراكهما في أنَّ الحاسد والغابط ينظر كلٌّ منهما إلى ما عند الغير من نعمة، فإنَّ الغبطة: هي تَمَنِّي المرء أن يكونَ له مثلُ ما لغيره من غير أنْ يتمنَّى زوالَه عن الغير، والحرص على هذا يُسمَّى: منافسة، فإن كانتْ في الخير، فهي محمودة، وإن كانت في الشرِّ، فهي مذمومة، وقد يُطلَق الحسد على الغِبْطة مجازًا؛ كما في حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلَّطَه على هَلَكَته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الْحِكمة، فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها))؛ متفق عليه. فالحسد في الحديث يُراد به الغِبْطة؛ لأنَّ كلاًّ من الرجُلين تمنَّى لنفسه مثلَ ما عند الآخر، ولَم يتمنَّ زوالَ النعمة عنه.
قالوا عن الحسد: قال أحدُ الْحُكماء: تجنَّبْ أربعة أشياء، تتخلَّص من أربعة أشياء: تجنَّب الحسد لتتخلَّص من الحزن، ولا تُجالس جليس السوء؛ لتتخلَّص من الملامة، ولا ترتكب المعاصي؛ لتتخلص من النار، ولا تجمع المال؛ لتتخلص من العَداوة. يقول صاحب الإحياء أبو حامد الغزالي - رحمه الله -: اعلمْ أنه لا حسدَ إلاَّ على نعمة، فإذا أنعَم الله على أخيك بنعمة، فلك فيها حالتان: إحداهما: أنْ تكره تلك النعمة وتحبَّ زوالَها، وهذه الحالة تسمَّى حسدًا، فالحسد حَدُّه: كَرَاهة النعمة وحبُّ زوالها عن المنعَم عليه. الحالة الثانية: ألاَّ تحبَّ زوالها، ولا تكره وجودها ودوامَها، ولكن تشتهي لنفسك مثلَها، وهذه تسمى: غبطة، وقد تختصُّ باسم المنافسة، وقد تُسَمَّى المنافسة حسدًا، والحسد منافسة، ويوضع أحدُ اللفظين موضعَ الآخر، ولا حجْرَ في الأسامي بعد فَهم المعاني. وقال النووي - رحمه الله -: قال العلماء: الحسَد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي: تمنِّي زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرامٌ بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي، فهو الغِبْطة: وهو أن يتمنَّى مثلَ النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإنْ كانتْ من أمور الدنيا، كانتْ مُباحة، وإنْ كانتْ طاعة، فهي مستحبَّة. وقيل: الحسد تمنِّي زوال النعمة عن صاحبها؛ سواء كانتْ نعمةَ دِينٍ أو دنيا. وقيل: أنْ تكره النِّعم على أخيك وتحبَّ زوالها، فحدُّ الحسد: كراهة النعمة وحبُّ وإرادة زوالها عن المنعَم عليه، والغِبْطة: ألاَّ تحبَّ زوالَها، ولا تكره وجودَها ودوامها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها. والمنافسة: هي أنْ يرى بغيره نعمةً في دِينٍ أو دنيا، فيغتم ألاَّ يكونَ أنعَم الله عليه بمثل تلك النعمة، فيحب أن يلحقَ به ويكون مثله، لا يغتمُّ من أجْل المنعَم عليه نفاسَةً منه عليه، ولكن غمًّا ألاَّ يكون مثله.
نعم الله موزعة: ومما ينبغي اعتقاده أنَّ الله - سبحانه - لَم يجمع النِّعَم الدنيوية عند أحدٍ من خَلْقه، فقد يُعْطى المرءُ مالاً وولدًا، ويُحْرَم الصحة، أو يُعطى مالاً وصحة، ويُحرَم الولد، أو يُعطى الصحة والولد، ويُحْرَم المال، أو يُعطى ذلك ويُحْرم الاستقرار والسعادة، وهكذا فإنَّ مَن أُعْطِي نعمة أو أكثر قد يحرم نعمًا أخرى، وأوْلَى بمَن حُرِمَ بعض النِّعَم ألا ينظرَ إلى ما أنعَم الله به على غيره مما حُرِمَ منه؛ حتى لا يصل به الحال إلى عدم شُكر الله - تعالى - على ما أنعَم به عليه، أو تَمَنِّي زوال هذه النعمة عن الغير، أو تمنِّي تحوُّلها إليه دون غيره، بل ينبغي أن يَعتَبِر بقول الله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 32]. وبقوله - سبحانه -: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]. ولا ينبغي أنْ يَنظر إلى مَن فوقه في النِّعَم، بل ينظر إلى مَن دونه فيها؛ حتى لا يَزْدَري نعمةَ الله عليه؛ فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((انْظُروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ ألاَّ تزدروا نعمةَ الله عليكم))؛ رواه مسلم. إذ المرء لا يكون على حال في هذه الدنيا، إلاَّ وجد من أهلها مَن هو أدْنَى حالاً منه، فإذا تفكَّر في ذلك، عَلِم أنَّ نعمة الله وصلتْ إليه دون كثير ممَّن فُضِّل عليه بذلك، فيُلْزِم نفسَه شكرَ الله عليها، وأما نظره إلى مَن يَفُوقه في النِّعَم، فهو باعثٌ من بواعث الحسد؛ ولهذا كان الأجدر به أنْ ينظر إلى مَن دونه فيها.
الحاسد إنسان سلبي: إنَّ مَن يلجأ إلى الحسد والنظر لِما عند الغير إنسانٌ غيرُ سوي نفسيًّا، وهو إنسان سلبي في تعامُله، فالأَوْلَى له بدلاً من أن يتمنَّى زوالَ النعمة من عند أخيه أنْ يَجتهد ويأخذ بأسباب النجاح والتفوق؛ كي يحقِّق مثلها ورُبَّما أفضل منها، بدلاً من أن يحصد ثمارَ الخيبة والتقاعُس، فليجتهد وليزرعْ شجرة، وليُضئ شمعة، فذلك خيْرٌ له من أنْ يلعنَ الظلام، ورَحِم الله الشيخ الشعراوي عندما سمعتُه يتحدَّث عن الحسد، وضرَب مثلاً لذلك، فقال: "لو أنَّ طالبًا نبغ في بلدك ودخَل كليَّة الطب، ولَم يتحقَّق ذلك لولدك، فلِمَ تحسُده وتحسُد أباه على ذلك؟! أوليس من الأفضل لك أن يكونَ هناك طبيب في بلدك؟ وهذا خيرٌ لك من أنْ تسافر إلى بلدٍ آخرَ؛ بحثًا عن ذلك الطبيب"، فالحاسد إنسان أحمق، يَسير ضدَّ مصلحته ومصلحة أُمَّته.
وللحسد حالات: أولاً: أن ينظر المرءُ إلى ما عند الغَيْر من نعمة دنيوية، فيتمنَّى زوالَها عنه؛ سواء تمنَّى انتقالها إليه، أو لَم يتمنَّ ذلك، وهذه الحالة هي الْمُرادَة بالحسد عند الإطلاق، وذلك حسد مذموم؛ لأن الحاسد كالساخط على قضاء الله - تعالى - وهو مَنْهيٌّ عنه. ثانيًا: أن ينظر المرء إلى ما عند الغير من نعمة أُخروية، كالتَّدَيُّن والعبادة، والطاعة والذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والالتزام بشرْع الله - تعالى - ونحو ذلك، فيتمنَّى زوالَها عنه؛ سواء تمنَّاها لنفسه أو لا، وذلك حسدٌ مذموم؛ كذلك للنصوص الدالة على حُكمه، فإنِ استهان بهذه النعمة، وسخِر من صاحبها كما يفعل بعض الجُهَّال، فقد أضاف إلى إثْمِ الحسد إثمَ الاستهزاء، وفي هؤلاء يقول الحقُّ - سبحانه -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾ [المطففين: 29 - 33]. ثالثًا: أن ينظر المرءُ إلى ما عند غيره من نعمة دنيويَّة، فلا يتمنَّى زوالَها عنه، ولا يعمل على إزالتها أو تحويلها عنه بالقول أو الفِعل، ولا يتمنَّى زيادتها له، وإنما يتمنَّى مثلَها أو أحسنَ منها لنفسه، ويعمل على تحصيل ذلك بطرق مشروعة، فهذا مُباح، بل هو مطلوب؛ لأنَّ التنافس في اكتساب أسباب النِّعم يتحقَّق به إعمارُ الأرض، ولا يَصدُق على هذه الحالة مُسَمَّى الحسد على وجْه الحقيقة، وإنما هي غِبْطة. رابعًا: أن ينظر المرءُ إلى ما عند غيره من نعمة أُخرويَّة، فلا يتمنَّى زوالها عن صاحبه، وإنما يتمنَّى لنفسه مثلَها أو أفضلَ منها، وتلك غِبْطة محمودة؛ لحديث ابن مسعود السابق: ((لا حسدَ إلا في اثنتين...)). ومِن ثَمَّ، فإنَّ الحسد الذي لا يكون فيه تمنِّي زوال النعمة عن الغير، هو في الحقيقة غِبْطة، فإذا كانتْ في طاعة كانتْ محمودة، وإذا كانتْ في معصية كانتْ مذمومة، وأمَّا الحسد الذي يُتَمَنَّى فيه زوالُ نعمة دنيويَّة أو أُخروية عن الغير، فهو مذمومٌ؛ للنصوص الواردة فيه.
الحسد بالعين: إنَّ الحسد بالعين حقيقة واقعة؛ ففي الحديث: ((العين حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابَقَ القَدَر، لسبقَتْه العين))؛ رواه مسلم. وكذلك الحسد - وهو تمنِّي زوال نعمة - موجودٌ بين الناس، وهو مذموم، والذي يَحسُد غيرَه بمعنًى من المعنَيَيْن السابقين، إنسان ارتكَبَ مُحرَّمًا، وعليه أن يعوِّد نفسَه الدعاءَ بالبركة لِمَن رأى فيه شيئًا طيِّبًا، وأن يُحبَّ للناس ما يُحب لنفسه، والمؤمن معرَّض لأنْ يَحْسُده إنسان آخرُ، وما عليه إلا أنْ يتحصَّن بقوَّة الإيمان والثقة بالله وقراءة القرآن، وبخاصَّة آية الكرسي وأواخر سورة البقرة وسورة يس، ويدعو الله أن يَقِيَه شرَّ الحاسدين، ويقرأ أيضًا: قل هو الله أحد، قل أعوذ بربِّ الفلق، قل أعوذ بربِّ الناس"، فهذه السور هامَّة في هذا المجال.
الوقاية من الحسد: عليك أخي المسلم الاستمرارَ في نشاطِك وعملك، ولا تُبَالِ بما يقوله أو يفعله، أو يُضمره لك غيرُك، وعليك أيضًا أن تقوِّي إيمانَك بالله، وترضى بقضائه وقَدره؛ خيره وشرِّه، حلوه ومُرِّه، وألا تيْئَس عند حُلول نِقْمة أو فشل في مشروع، فذلك امتحان من الله، والله - تعالى - يقول: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. لا تَيئَس من رحمة الله أبدًا، فكم في السابقين مَن تَوَالَتْ عليه المِحَن، فصبر وصابَر، فكان له النجاحُ الباهر، ولك في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أسوة حسنة، وقد قال الله لرسوله: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]. يقول الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 51 - 52].
يقول ابنُ كثير: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: ﴿ لَيُزْلِقُونَكَ ﴾ لينفذونك "بأبصارهم"؛ أي: يعينونك بأبصارهم لولا وقاية الله لك وحمايته إيَّاك منهم، وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ العينَ إصابتها وتأثيرها حقٌّ بأمر الله - عزَّ وجلَّ - كما وردتْ بذلك الأحاديثُ. ويقول سبحانه - تعالى -: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]. ويقوله - تعالى -: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، ويقوله - تعالى -: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]. وصدَق مَن قال: وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ
الحسد معاداة لله: والحسد في الحقيقة نوعٌ من مُعاداة الله، فإنَّ الحاسد يكره نعمة الله على عبده وقد أحبَّها الله، ويحبُّ زوالَها والله يكره ذلك، فهو مُضاد لله في قضائه وقدره ومحبَّته؛ ولذلك كان إبليس عدوَّه حقيقة؛ لأن ذنبَه كان عن كِبر وحسدٍ، وللحسد حدٌّ وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدَّم عليه نظيرُه، فمتى تعدَّى صار بغْيًا وظُلمًا يتمنَّى معه زوال النعمة عن المحسود، ويَحرص على إيذائه. وقد اُبتلي يوسف بحسد إخوته له؛ حيث قالوا: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8]. فحسدوه على تفضيل الأب له؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]. ثم إنهم ظلموه بتكلُّمهم في قتْله وإلقائه في الْجُبِّ، وبيعه رقيقًا لِمَن ذهَب به إلى بلاد الكفر، فصَار مملوكًا لقومٍ كُفَّار. وقد قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف - لا أبا لك؟! ولكن غمه في صدْرك؛ فإنه لا يضرُّك ما لَم تعدُ به يدًا ولسانًا. وقال - تعالى - في حقِّ اليهود: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]. يودون؛ أي: يتمنون ارتدادَكم حسدًا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الودِّ، من بعد ما تبيَّن لهم الحقُّ؛ لأنهم لَمَّا رأوا أنَّكم قد حصل لكم من النعمة ما حصَل - بل ما لَم يحصلْ لهم مثله - حسدوكم. وكذلك في الآية الأخرى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 54، 55].
وقال - تعالى -: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1-5].
وقد ذكَر طائفة من المفسرين أنَّها نزلتْ بسبب حسد اليهود للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى سحروه، سحَره لبيد بن الأعصم اليهودي.
وقال الله - تعالى -: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]؛ أي: مما أُوتِي إخوانُهم المهاجرون. قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة؛ أي: حسدًا وغيظًا مما أُوتي المهاجرون، ثم قال بعضُهم: من مال الفَيء، وقيل: من الفضْل والتقدُّم، فهم لا يجدون حاجة مما أُوتوا من المال ولا من الجاه، والحسد يقع على هذا، وكان بين الأَوْس والْخَزرج منافسة على الدِّين، فكان هؤلاء إذا فعَلوا ما يُفَضَّلون به عند الله ورسوله، أحبَّ الآخرون أن يفعلوا نظيرَ ذلك، فهي منافسة فيما يقرِّبهم إلى الله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، وصدق القائل حيث قال: كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إزَالَتُهَا إِلاَّ عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ
الحسد باقٍ حتى ينزل المسيح: والحسد يبقى إلى لحظة نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام - في آخر الزمان قُبيل قيام الساعة، وهذا ما أخبر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والله لينْزِلَنَّ ابنُ مريمَ حَكمًا عادلاً، فليكْسِرَنَّ الصليب، وليَقْتُلَنَّ الخنزير، وليَضَعَنَّ الجزية، ولتُتْرَكَنَّ القِلاص - جمع قَلُوص: وهي الشابة من الإبل - فلا يسعى عليها، ولتذهبنَّ الشحناءُ والتباغُض والتحاسد، وليَدْعُوَنَّ إلى المال، فلا يَقبله أحد))؛ رواه مسلم.
| |
|